قصتي مع مصـر (ح 2)
تانيد ميديا : كان الوقت الثامنة مساء وكان الجو لطيفا والنسيم المنبعث عليلا رائقا والقمر منيرا.
وجدا في استقبالهما شبابا أخذوهما إلى فندق المؤتمر.
الطريق من المطار إلى المدينة – حيث “فندق روايالمريديين”- طويل تتبارى فيه آلاف السيارات بسرعة هائلة.
في “روايل نايل تاور” (روايال ميريديان سابقا) حلا أهلا ونزلا سهلا رغم بطء مراسيم الحجز وشروطه الصعبة التي ذللها رفاقهما.
“يقع روايال نايل تاور في أرقى مناطق القاهرة: جزيرة الروضة – أجمل بقاع النيل، ويجعله تصميمه محاطا بدائرة من المناظر الطبيعية الحية لنهر النيل، بحيث تسمح للزائر بالاسترخاء والتمتع بهذه المناظر الخلابة”.
نزلا في الغرفتين رقمي 3540 و2750 التي كانت من نصيبه (أي الطابق 27).
بعد استراحة قصيرة، خرجا مع الأصدقاء في ليل القاهرة الجميل الساهر.
تمشوا في الشوارع القريبة من الفندق.. اجتازوا الكورنيش بصعوبة.. سلكوا شارعا ضيقا يمر أمام مركز شرطة قصر النيل قرب مقر اتحاد المحامين العرب، لينتهي في شارع قصر العيني. مروا أمام دار الحكمة، فقهوة “أرابيسك” الشهيرة، فـ”الموقف العربي”. كان جانب من الشارع المؤدي إلى ميدان التحرير مغطى بجدارية (بانوراما) تحكي بالرسوم والصور قصة ثورة يوليو في يوبيلها الذهبي. وأخيرا دلفوا إلى مطعم أبو شقره – قصر العيني، حيث التقى – لأول مرة في حياته- المطبخ المصري الشهي رغم غياب أشهر ممثليه “الملوخية” عن الموعد.. ثم رجعوا إلى الفندق سعيا على الأقدام.
لله أبو الطيب حين يقول:
ولولا أنني في غير نـوم ** لكنـت أظنني مني خيالا(1)
(بيت أنشده وهو يجوب شوارع باريس وحده وعمره دون السابعة عشرة ولا يعرف كلمة واحدة من الفرنسية!)
أهو في يقظة، أم في حلم جميل يزخر بالمنى؟ أحقا أن جسده يختال هذه اللحظة على خطى روح عربدت عقودا أربعة على ثرى مصر الطاهر، وأنه يستمتع الآن فعلا برؤية معالم القاهرة التي حفظها عن ظهر قلب، كما حفظ الباهي(2) وولد التا(3) معالم باريس، وأنه ينهل الآن من عبيرها الزكي؟
أنشد لبعض “القوم”:(4)
في حالة البعد روحي كنت أرسلها ** تقبل الأرض عني وهي نائبتي
وهذه دولة الأشباح قد حضرت ** فامدد يمينك كي تحظى بها شفتي
هذه، مثلا، ساحة “ميدان التحرير” الرحبة، يتوسطها تمثال بطل الجمهورية العربية المتحدة وبطل العرب الفريق عبد المنعم رياض. إنها مزدحمة. تضج بحركة “عصر الانفتاح والعولمة” العائد! ولكن، ألم يقف هو هنا.. في هذا المكان بالذات. في يوم آخر، وشأن آخر، وعصر عبق آخر؛ قبل أن يقف به، حارسا لا يريم، قائد حرب المقاومة والاستنزاف؟ يومها كان المشير عامر هو القائد! وكان الطريق إلى القاهرة مفتوحا أمام دبابات الصهاينة الرابضين على القناة! وكان هول الهزيمة المدمرة يسحق القلوب والعقول!
وإن ينس، لن ينسى كذلك، ذلك المساء الكارثي القاتم!
تكوم مشلولا حول جهاز “ترانزستور” يتابع منه، من أمام بيته المتواضع، الذي كان قبلة القوميين، في بلاده النائية، النائمة على شاطئ المحيط الأطلسي، خطاب قائد راهن عليه وعلى بلده الكبير في تحقيق حلم العرب في النصر، والوحدة، وتحرير فلسطين! وفي لحظة من لحظات الفاجعة، كان لعبارة ” قررت أن أتنحى” التي أعلنها الرئيس وقع الصاعقة في نفسه كما في نفوس عشرات الملايين العرب. شعر أن كبده قد تفطرت، وأن قلبه قد اجتث من صدره.. ألقى الجهاز من يده، وصاح بكل ما أوتي من قوة الشباب: لا لا لا! وانهار يبكي بحرقة أمام جمع يرى صرح آماله ومستقبل أهله ينهار هباء تذروه الرياح ويتلاشى كالسراب! ذعرت زهرته ذات الربيعين والنصف فألقت بنفسها منتحبة بين ذراعيه فأزاحها عن حضنه الذي لم يعد ملاذا زاخرا بدفء الأمة الذي كان يغمره! كم هي قاسية وموحشة، تلك الأوقات التي لا يجد فيها الرجال في أيديهم سوى البكاء! وما أعظم أولئك الذين يَثبُتون، ويُثبِتون في الدواهي أنهم أقوى من الهزيمة!
تذكر قول البارودي:
سعيت إلى أن كدت أنتعل الدما ** ولم يبق في كفي إلا التندما
وفي لمح البصر، أنقذ الشعب العربي في مصر وفي الوطن العربي الموقف، فزحف في كل مكان إلى هذا الميدان، وكل ميدان، يحمي مصر المستباحة العزلاء، وثورتها الضائعة، ورمزها المغدور، ويعلن “لا” مدوية للعالم!
وفجأة صارت بلاده القاصية المنسية النائمة في حضن المحيط جزءا ساخنا من الجبهة! فحاصر البداة العزل سفارة الولايات المتحدة الأمريكية في نواكشوط حتى تم جلاؤها وغلب “اليعقوبيون” أمريكا، فقطعت العلاقات الدبلوماسية بين بلاده وبين أمريكا وبريطانيا، وتم إخراج الدبلوماسيين الأمريكيين صاغرين من موريتانيا في ظرف ثمان وأربعين ساعة.. وهب الموريتانيون في حملة جمع تبرعات آتت أكلا يفوق التوقع؛ وانطلق الرئيس المختار ولد داداه – رحمه الله- يحدو إفريقيا، قطرا بعد قطر، حتى قطعت جميع علاقاتها مع “إسرائيل” يحتضنها اليوم أبناؤه وأحفاده، كما يحتضن الهشيم النار!(5)
وصدحت حناجر الشعراء وألسنة وأقلام المفكرين والكتاب تحْدوا الأمة وتستشرف النصر وتصنع الفجر!
وفي أعماق الريف الموريتاني – بادية كيفة- غنت المرحومة امّانه بنت ابيسيف من كلماته نشيد:
كَرّو يا النساء ألطفال ** يحيـا للعروبه جمــال
لعْربْ مرّه كانْ انكصرو ** واحتــلّ لعْداءْ القنال
يَسْوَ، مَزَالُ يَنْتَصْـــرو ** وابيدُ قـوة الاحتــلال
وانتقل الرئيس جمال عبد الناصر إلى رحمة الله قبل أن يعيش لذة النصر الذي نسج خيوطه وخلق شروطه. ولكن النصر تحقق في أكتوبر سنة 73. ولم يحتفل – هو الآخر- بنصر أكتوبر الذي طالما حلم به واستشفه في رحم الغيب، وذلك لسببين؛
أولهما: أنه كان يومها يعيش مختبئا تحت الأرض مطاردا من نظام بلاده.
وثانيهما – وهو الأهم-: ما شاب ذلك النصر من شوائب كانت آخرتها توظيف تضحيات ملايين الأحرار في صلح كارثي منفرد رديء سخّر مصر العظيمة وارتهنها لأعدائها الأمريكيين والإسرائيليين.
شم النسيم
لم يخرج من فندقه طيلة يوم الجمعة، مخافة أن يهرب منه حلم مصر و يتبدد.
وفي المساء تعشوا في مطعم أبي شقرة المعادي، ثم قاموا بجولة في معالم المدينة شملت شارع صلاح سالم الذي هو الأطول والأفخم في القاهرة.. نزلوه عن طريق جسر 6 أكتوبر الذي يعبر المدينة بطول 26 كيلو مترا بعضها معلق. وفي صلاح سالم عرجوا على ميدان ومنصة العرض العسكري حيث سقط أنور السادات، وحيث ضريحه الفخم في شكل هرم قبالة المنصة نفسها. لم يتمكنوا من زيارة الضريح لتأخر الوقت. فتوجهوا إلى مسجد الرئيس جمال عبد الناصر قرب منزله بمنشية البكري، فكان ضريحه مغلقا أيضا. لكنهم تمكنوا من زيارته في يوم آخر.
وفي يوم السبت الموالي خرجا زوالا صحبة أصدقاء كرام فقاموا بجولة بالسيارة في المدينة شملت ميدان التحرير وجسر الأسد الجميل؛ حيث ينتصب على مدخل الجسر من الجهتين أسدان ضخمان؛ بينما يقف في أحد الأطراف تمثال ضخم للزعيم سعد زغلول وهو واقف يحيي شعب مصر. ولسان حاله ينشد:
علو في الحياة وفي الممات ** لحق تلك إحدى المعجزات!(6)
وقرب جسر الأسد ارتادوا مطعما عائما في باخرة سياحية جابت بهم النيل وطافت بمعظم أرجاء القاهرة مدة ساعتين تناولوا خلالهما غداء لذيذا، عادوا بعده في الغروب إلى الفندق حيث جرت إجراءات التسجيل في المؤتمر واستلما برنامجه وكافة وثائقه. وفي مساء يوم آخر تناولا العشاء بدعوة من إخوة كرام في باخرة تدعى “أكواريس” جابت بهما جميع أرجاء النيل في حفل غناء ورقص رائع!
قلت والنسمة تسري في لساني ** هاجت الذكرى فأين الهرمان
“آه… لو كنت معي تختال عبره ** بشراع تسبح الأنجم إثره
حيث يروي الموج في أرخم نبره ** حلم ليل من ليالي كليوبتره
أين من عيني هاتيـك المجـالي ** يا عروس البحر يا حلم الخيال؟”(7)
ـــــــــــــــــــــــــــــ
1- لأبي الطيب المتنبي.
2- هو ابّاه ولد محمد؛ مواطن موريتاني هاجر إلى المغرب أواخر أيام الاستعمار الفرنسي وانضم إلى جيش التحرير، ثم أصبح صحفيا لامعا وقياديا في اليسار العربي. حور اسمه خطأ في مسابقة أجرتها إحدى الصحف إلى “بها” فاحتفظ به كذلك. عشق فرنسا وأقام بها برهة طويلة. توفي بالدار البيضاء 1997، وقد رثاه صديقه عبد الرحمن منيف بكتاب سماه “عروة الزمان الباهي”.
3- أحمد سالم ولد التا: أديب معاصر ذو باع طويل في الثقافة والأدب والتاريخ والترجمة. عشق فرنسا (كما الباهي) ويقيم الآن في باريس.
4- ينسب البيتان إلى علي الرفاعي.
5- هكذا كان الأمر وقتها؛ وقد قطعت تلك العلاقة منذ ثلاث سنوات لله الحمد.
6- لأبي الحسن الأنباري.
7- من قصيدة “الجندول” لعلي محمود طه.